يوميات مواطن الكترونى
قرر أن يعيش يوما إلكترونيا من أجل تجديد رخصة السيارة. وبالفعل حصل على رخصة بالكمبيوتر، لكن بعد ثلاثة أيام من أحداث لا علاقة لها على الإطلاق بعصر الحكومة الإلكترونية. استيقظ صاحبنا فى صباح اليوم الإلكترونى وجلس أمام الكمبيوتر، ليستعلم عن قيمة مخالفات الرخصة ويستفيد من إحدى خدمات الحكومة الإلكترونية، اختصارا للوقت بدلا من الوقوف أمام شبابيك الموظفين.
ونزل متوجها إلى قسم المرور التابع له فى وسط القاهرة، وهو سعيد بهذه البداية الإلكترونية للإجراءات. لكنه ما إن وصل للقسم حتى فوجىء بمشاهد غير إلكترونية بالمرة.. معالجة الأوراق ما زالت تتم باليد، وكل خطوة يؤديها موظف أو موظفة تصدر عنه نظرات لصاحب الطلب، كأنما تريد أن تستكشف ما إذا كان سيقدر (من جيبه الخاص) صنيع الموظفين وإنجازهم لأوراقه.
الصورة الإلكترونية التى رسمها فى ذهنه لإنهاء الأوراق لم يكن لها أثر على أرض الواقع.. خلا أحد مقاعد الجمهور أمام شبابيك الموظفين، فجلس عليه ووجد بجواره رجلا عجوزا يستند إلى عكاز. وبعد دقائق جاء شاب يطلب من العجوز أن يصحبه، قائلا 'الموظفة طلبت تشوفك ياحاج؟'.. وقف الرجل على مضض، وهو يصب جام غضبه على من تسبب فى نزوله من منزله فى اليوم شديد الحرارة. لم يعرف صاحبنا بالضبط الأوراق، التى جاء من أجلها الرجل، لكنه تساءل: عما اذا كانت الحكومة الإلكترونية يمكن يوما أن توفر على مثل هذا المواطن مشقة الجرى بنفسه وراء إنهاء أوراق ما.
أثناء الفحص الفنى شاهد موظفا يرفع بصمة موتور إحدى السيارات، وسأله صاحب السيارة عما إذا كان سيراه مرة أخرى فى مرحلة لاحقة.. ورد الموظف بالنفى، وقال 'أنا قدامك أهوه.. لو عايزنى'، ودس صاحب السيارة ورقة بعشرة جنيهات فى يد الرجل، الذى لم يفعل أكثر من كتابة رقم موتور السيارة، وهى مسألة لم ير فيها صاحبنا مجالا للمجاملة أو التجاوز عن خطأ ما، مما يستدعى 'تفتيح الدماغ' من أصحاب السيارات، لكن ثقافة إنهاء الأوراق فى المصالح الرسمية هى التى تدفع الناس بلاشك إلى التعود على تقديم 'الإكراميات' بصورة آلية.
فى مكتب موظفى الفحص الفنى وقف صاحبنا أمام موظف انهمك بعد المعاينة فى إنهاء أوراق فحص السيارة دون أن تصدر عنه نظرة من إياها 'تنخس' من أمامه لدفع المعلوم. واستبشر صاحبنا خيرا أن رأى فى النهاية موظفا شريفا لا ينتظر أية إكراميات، لكن هذا التفكير لم يطل كثيرا إذ صدر صوت من مكتب مجاور يسأل الموظف 'أخذت حقك يا فلان'، ورد الموظف على زميله 'كلها على الله'، وبالطبع لم يكن صاحبنا فى حاجة إلى توضيح أكثر من هذا.
بعد اجتياز مرحلة الفحص الفنى، عاد إلى شباك الموظفة المختصة بإنهاء أوراق التجديد. السيدة تبدو وقد تجاوزت منتصف العمر.. ملامحها تتشابه مع ملامح أية أم مصرية كادحة. كانت تضغط على الحروف، وهى ترحب بصاحبنا من وراء قضبان نافذتها وتؤكد الاستعداد لإنهاء الإجراءات بأسرع ما يمكن. أسلوب الحديث أشعره بالحرج وأيضا بالتعاطف مع هذه الأم المصرية. هل الهدف من الحديث المهذب بصورة مبالغ فيها دفع صاحبنا إلى أن يكون 'جنتل' ويرد الجميل؟، خرج من أفكاره على صوت الموظفة تسأله عن المخالفات.
رد قائلا: إنه استخرج قيمتها من على موقع الحكومة الإلكترونية على الإنترنت وأنه مستعد للدفع. لكن الموظفة قالت إن سداد المخالفات يحتاج إلى التوجه إلى مرور القاهرة فى 'الدراسة'. ولماذا لا يمكن دفعها هنا للانتهاء منها، مثل باقى الإجراءات؟. لم تعرف الموظفة ردا.. ولم يعرف صاحبنا، كيف استطاع من خلال الكمبيوتر فى منزله معرفة قيمة المخالفات، بينما لا يوجد كمبيوتر مماثل فى قسم المرور يتيح سداد قيمتها. وكان لابد من التوجه إلى الدراسة عبر شوارع وسط البلد ونفق الأزهر، حيث عاش فى مرور القاهرة فصلا آخر غير إلكترونى بالمرة، لإنهاء الإجراءات